من ينظر للكون فى إتساقه .. وتوازن حركته .. و إنسجامه ، يتعجب فى المقابل لفوضى عالم البشر واضطراب أحوالهم ومابينهم من تناحر ...
ولكى نفهم كيف للكون كل هذا التوازن و للبشر كل هذا الإضطراب والتناحر ، لابد أن نرجع إلى النشأة الأولى وكيف تكوّن الكون ، ولما كان هذا الإختلاف بينهم وبين بنى البشر ...
( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) ..
إنها الأمانة مرة أخرى ، الأمانة التى عُرضت على الكون كله بما فيهم الإنسان بادئ الأمر ،
لا نتكلم هنا عن طيور أو دواب أو حتى الشجر ، نتكلم عن جمادات صماء خرساء كما تبدو لنا ، من جبال وأرض ونجوم وكواكب.. إلخ ، تُعرض عليهم الأمانة ؟ !! ..
ومن تُعرض عليه الأمانة لابد أن يتصور أن يكون لديه قدر من الوعىّ والإدرك حتى يدرك ماهى الأمانة ،
بل لديه أكثر من ذلك أيضا كما تخبرنا الآية الكريمة ، لديه بجانب الوعى والإدراك لديه الإرادة ؟!! ..
إرادة تأبى حمل الأمانة إشفاقا من تبعاتها ،
إشفاقا من مسئولية أن تكون لها إرادة حرة مستقلة ،
وأرتضت فى مقابل ذلك ، أن تظل كما هى على نفس نهجها السابق منذ النشأة الأولى ..
أن تكون بالله .. وفالله ،
بالله ..إن لا تنفك أفعالها أبدا عن الإستعانة بالله ،
وفالله .. إن لا تخرج فى حياتها عن الفطرة التى أودعها الله فيها ..
وبذلك كان الإستقرار فى الكون كله ، الذى نرى جماله الواضح للعيان وبهاءه ، وكيف يسير بمنتهى السلاسة والدقة وفى غاية التوازن ، ( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ) ..
أمم من المخلوقات ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم )
وقد أنزل الله كل منها منزلتها فى سلم العبودية بقدر علمها ، وألهمها كيفية صلاتها وتسبيحها ..
( كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ )
صلاة تتجلى فى دوام الصلة والإستعانة بالله والثناء عليه ،
وتسبيحا فى النزوع برضاها نحو الفطرة لا تحيد عنها ، تنزيها للخالق الواحد من كل نقص ..
ولكن لازال فى الناحية المقابلة من هو بالأمانة نراه حائرا ،
من حملها مختارا ، فكان إما صاعدا بها أو هابطا ،
صاعدا إلى مصاف الملائكة الكرام ، حين تتوافق إرادته الحرة مع الفطرة ، وتكون أفعاله بالله .. وفالله ،
أو يهوى بها ساقطا لايدرك حتى منزلة أخس المخلوقات فى الحياة ، حين تتمرد إرداته الحرة على الفطرة ، وتكون أعماله لل ( أنا ) متبعا لهواه ..
ولا يزال الأمر كذلك صعودا وهبوطا فى اضطراب عالم بنى البشر حتى يأتى أمر الله ،
حين تسترد الأمانة وتستقر كل نفس فى المنزلة التى تستحقها فى دار الجزاء ..
( وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ) ..

